الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ فِي الْمَسْحِ لَا يَقْتَضِي الْإِيعَابَ عُرْفًا، فَمَا عُلِّقَ بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، تَقُولُ: مَسَحْت الْجِدَارَ، فَيَقْتَضِي بَعْضَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْجِدَارَ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَسْحِ حِسًّا، وَلَا غَرَضَ فِي اسْتِيعَابِهِ قَصْدًا، وَتَقُولُ: مَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ، فَيُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّهُ بِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ.وَتَقُولُ: مَسَحْت الدَّابَّةَ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا جَمِيعُهَا؛ لِأَجْلِ مَقْصَدِ النَّظَافَةِ فِيهَا، فَتَعَلُّقُ الْوَظِيفَةِ بِالرَّأْسِ يَقْتَضِي عُمُومَهُ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: مَسَحْت رَأْسِي كُلَّهُ فَتُؤَكِّدُهُ، وَلَوْ كَانَ يَقْتَضِي الْبَعْضَ لَمَا تَأَكَّدَ بِالْكُلِّ؛ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ لِرَفْعِ الِاحْتِمَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَى الظَّاهِرِ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ.وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ إنَّ تَرْكَ الْيَسِيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ: أَنَّ تَحَقُّقَ عُمُومِ الْوَجْهِ بِالْغَسْلِ مُمْكِنٌ بِالْحِسِّ، وَتَحَقُّقَ عُمُومِ الْمَسْحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ فَسُومِحَ بِتَرْكِ الْيَسِيرِ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ.وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مُرُورَ الْيَدِ عَلَى الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ تَحْصِيلُهُ حِسًّا وَعَادَةً.وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ: إنَّ تَرْكَ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ: قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى الثُّلُثَ يَسِيرًا، فَجَعَلَهُ فِي حَدِّ الْمَتْرُوكِ لَمَّا رَأَى الشَّرِيعَةَ سَامَحَتْ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَغَيْرِهِ.وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ: إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الْكَثِيرِ عَلَى الثُّلُثِ فِي قَوْلِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ».وَلُحِظَ مَطْلَعُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّاصِيَةِ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي تَعَلُّقِ الْعِبَادَاتِ بِالظَّاهِرِ.وَمَطْلَعُ قَوْلِ أَشْهَبَ فِي أَنَّ مَنْ مَسَحَ مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ إلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ تَنَاصُفٌ لَيْسَ يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ عِنْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَنْحَاءِ الْمُطَلَّعَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْرُجْ اجْتِهَادُهُمْ عَنْ سَبِيلِ الدَّلَالَاتِ فِي مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا جَاوَزُوا طَرَفَيْهَا إلَى الْإِفْرَاطِ؛ فَإِنَّ لِلشَّرِيعَةِ طَرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَرَفُ التَّخْفِيفِ فِي التَّكْلِيفِ.وَالْآخَرُ: طَرَفُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ.فَمَنْ احْتَاطَ اسْتَوْفَى الْكُلَّ، وَمَنْ خَفَّفَ أَخَذَ بِالْبَعْضِ.قُلْنَا: فِي إيجَابِ الْكُلِّ تَرْجِيحٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: الِاحْتِيَاطُ.الثَّانِي: التَّنْظِيرُ بِالْوَجْهِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ بَلْ مِنْ مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ، وَذِكْرِ الْمَحَلِّ؛ وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ الرَّأْسُ.الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ.فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْبَعْضِ؟ قُلْنَا: بَلْ هُوَ نَصٌّ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْجَمِيعُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعِمَامَةِ وَالرَّأْسِ.فَلَمَّا مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ مِنْ رَأْسِهِ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاقِيهِ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْحَائِلِ مِنْ جَبِيرَةٍ أَوْ خُفٍّ، وَنَقَلَ الْفَرْضَ إلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ فِي هَذَيْنِ.جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزْكُومًا فَلَمْ يُمْكِنْهُ كَشْفُ رَأْسِهِ؛ فَمَسَحَ الْبَعْضَ وَمَرَّ بِيَدِهِ عَلَى جَمِيعِ الْبَعْضِ، فَانْتَهَى آخِرُ الْكَفِّ إلَى آخِرِ النَّاصِيَةِ، فَأَمَرَّ الْيَدَ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَصَدَ مَسْحَ الْعِمَامَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَسْحَ النَّاصِيَةِ بِإِمْرَارِ الْيَدِ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً، وَلِهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْهُ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَطْوَارِهِ بِأَسْفَارِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَحَشْوِيَّةُ النَّحْوِيَّةِ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَمْ يَبْقَ ذُو لِسَانٍ رَطْبٍ إلَّا وَقَدْ أَفَاضَ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْكَلَامُ فِيهَا إجْلَالًا بِالْمُتَكَلِّمِ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ شَدَا طَرَفًا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْبَاءِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تَرِدُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيهِ لِرَبْطِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمَعْنًى؛ تَقُولُ: مَرَرْت بِزَيْدٍ، فَهَذَا لِإِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، ثُمَّ تَقُولُ: مَرَرْت زَيْدًا فَيَبْقَى الْمَعْنَى.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيَانُهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.وَقَدْ طَالَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَرَامَتْ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فِي الْمُخْتَصَرِ حَتَّى أَفَادَنِي فِيهِ بَعْضُ أَشْيَاخِي فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُطَالَعَةِ فَائِدَةً بَدِيعَةً: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: «فَامْسَحُوا» يَقْتَضِي مَمْسُوحًا، وَمَمْسُوحًا بِهِ.وَالْمَمْسُوحُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا كَانَ.وَالْمَمْسُوحُ الثَّانِي هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَاسِحِ وَالْمَمْسُوحِ، كَالْيَدِ وَالْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ الْمَسْحِ، وَهُوَ الْمِنْدِيلُ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ قَالَ: امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ لَأَجْزَأَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ إمْرَارًا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ عَلَى الرَّأْسِ لَا مَاءَ وَلَا سِوَاهُ، فَجَاءَ بِالْبَاءِ لِتُفِيدَ مَمْسُوحًا بِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الْمَاءَ، مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ، وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: كَنُوَاحِ رِيشِ حَمَامَةٍ نَجْدِيَّةٍ وَمَسَحْت بِاللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الْإِثْمِدِ مِثْلُهُ: «مِثْلُ الْقَنَافِذِ».وَمِثْلُهُ: {مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}.وَاللِّثَةُ: هِيَ الْمَمْسُوحَةُ بِعَصْفِ الْإِثْمِدِ، فَقَلْبٌ.وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْفَصَاحَةَ قَائِمَةٌ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَرْطِهِ الرَّابِعِ بِالثَّلَاثَةِ الْأَصَابِعِ أَوْ الْأَرْبَعِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لابد أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَمْسُوحٌ بِهِ لِأَجْلِ الْبَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَامْسَحُوا بِأَكُفِّكُمْ رُءُوسَكُمْ.وَالْكَفُّ خَمْسُ أَصَابِعَ وَمُعْظَمُهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ، وَالْمُعْظَمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَفَطِنَ أَنَّ إدْخَالَ الْبَاءِ لِمَعْنًى، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ يَقْتَضِي الْيَدَ لُغَةً وَحَقِيقَةً؛ فَجَعَلَ فَائِدَةَ الْبَاءِ التَّعَلُّقَ بِالْيَدِ.وَهَذِهِ عَثْرَةٌ لِفَهْمِهِ لَا يُقَالُهَا، وَوَفَّقَ اللَّهُ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي أَفَادَنِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ فِيهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنِي وَإِيَّاكُمْ بِرَحْمَتِهِ.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: مِنْ أَغْرَبِ شَيْءٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَأَى مَسْحَ شَعْرِ الْقَفَا؛ وَلَيْسَ مِنْ الرَّأْسِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ؛ فَإِنَّ الرَّأْسَ جُزْءٌ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَالْيَدَ جُزْءٌ، وَالْبَدَنَ جُزْءٌ، وَالْعَيْنَ جُزْءٌ، وَالْعُنُقَ جُزْءٌ، وَمُقَدَّمَ الرَّقَبَةِ الْعُنُقُ، وَمُؤَخَّرَهَا الْقَفَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ قَفَاهُ».وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَفَاهُ».الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ثُمَّ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَنَقَلَ أَصْحَابُهُ مَا شَاهَدُوا مِنْ صِفَةِ وُضُوئِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِكَيْفِيَّةِ الْمَغْسُولِ صِفَةً، وَنَقَلُوا كَيْفِيَّةَ مَسْحِ رَأْسِهِ بِاهْتِبَالٍ كَثِيرٍ، وَتَحْصِيلٍ عَظِيمٍ، وَاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ مُتَفَاوِتٍ، نَشَأَتْ مِنْهُ مَسَائِلُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مُعْظَمِهَا؛ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُبْهَمًا.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}: وَقَالَ الرَّاوِي: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ، فَلَوْ غَسَلَهُ الْمُتَوَضِّئُ بَدَلَ الْمَسْحِ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، إلَّا مَا أَخْبَرَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ.وَهَذَا تَوَلُّجٌ فِي مَذْهَبِ الدَّاوُدِيَّةِ الْفَاسِدِ مِنْ اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ الْمُبْطِلِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.وَكَمَا قَالَ: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ}؛ وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْغَاسِلُ لِرَأْسِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ.فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ زِيَادَةٌ خَرَجَتْ عَنْ اللَّفْظِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ.قُلْنَا: وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَاهُ فِي إيصَالِ الْفِعْلِ إلَى الْمَحَلِّ وَتَحْقِيقِ التَّكْلِيفِ فِي التَّطْهِيرِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ: وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ يَدَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ».وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ مَاءِ فَضْلِ يَدَيْهِ».قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مُطْلَقًا».وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَرَدَتْ مُقَيَّدَةً، وَالْمُقَيَّدُ أَوْلَى مِنْ الْمُطْلَقِ؛ لِاحْتِمَالِ الْمُطْلَقِ وَتَنْصِيصِ الْمُقَيَّدِ.وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.وَالثَّانِي: وُجُوبُ نَقْلِ الْمَاءِ، وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: نَشَأَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَرَى نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَلَيْسَ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مِنْ بَلَلِ لِحْيَتِهِ نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ؛ فَيَكْفِي مِنْهُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ؛ فَأَمَّا نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ كَمَا وَصَفَ أَصْحَابُهُ، فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ كُلُّهَا حَيْثُمَا وَرَدَتْ فَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُ وُضُوئِهِ فِيهَا وَكَثْرَةُ الْأَعْدَادِ فِي الْأَعْضَاءِ وَقِلَّتُهَا حَاشَا الرَّأْسِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ: «تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا».قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً.وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ: «أَنَّهُ أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ».وَفِي الْبُخَارِيِّ: «فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ»؛ وَهُمَا صَحِيحَانِ مُتَوَافِقَانِ.وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَسْمِيَةِ الْفِعْلِ بِابْتِدَائِهِ وَبِغَايَتِهِ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْحُ لِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَلَوْ مَسَحَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ قَالَ ابْنُ سُفْيَانَ: حَتَّى لَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ لَأَجْزَأَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ هَيْئَةَ الْأَفْعَالِ فِي الْعِبَادَاتِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعِبَادَةِ كَأَصْلِهَا.وَالثَّانِي: كَوَضْعِ الْإِنَاءِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُتَوَضِّئِ.وَالثَّالِثُ: كَاغْتِرَافِ الْمَاءِ بِالْيَدِ وَغَسْلِ الْأَعْضَاءِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ.وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْهَيْئَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْحِ تَفْسِيرُ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَوْلَى فِي التَّعْمِيمِ، وَأَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا فَاتَهُ فِي الْإِقْبَالِ أَدْرَكَهُ فِي الْإِدْبَارِ.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَمَّا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ جَمِيعَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي إيجَابِ عُمُومِهِ، وَكَانَتْ الْجَبْهَةُ خَارِجَةً عَنْهُ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْخِلْقَةِ، نَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْأَصْلَعِ وَالْأَنْزَعِ مِنْ الْأَغَمِّ.وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ؛ وَحُكْمُهُ الْأَظْهَرُ أَنْ يَمْسَحَ مِنْ الرَّأْسِ مِقْدَارَ الْعَادَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّعْمِيمِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا هُوَ لِلرَّجُلِ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى فِي مَسْحِ الرَّأْسِ؛ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ تَمَيَّزَتْ عَنْ الرَّجُلِ بِاسْتِرْسَالِ الدَّلَّالَيْنِ، فَاخْتَلَفَ آرَاءُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ مِنْ الْجِلْدَةِ، وَبِهِ تَعَلُّقٌ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَمْسَحُ مِنْهُ مَا يُوَازِي الْفَرْضَ مِنْ مِقْدَارِ الرَّأْسِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي اللِّحْيَةِ آنِفًا، وَكَمَا يَلْزَمُ فِي الْخُفَّيْنِ مَسْحُ مَا يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.
|